تُعَدُّ تركيا قوةً عابرةً للقارات وبينما يتمتع الجانب الأوروبي من البلاد بالأمن والهدوء سنجد أن الوضع مختلفٌ تماماً على الجانب الآسيوي، ومنذ انهيار اتفاقية سايكس بيكو التي أدت لتفكيك الحدود الإقليمية من الداخل، تسعى سعت الدول الكبرى إلى تشكيل مناطق نفوذها الخاص. وتؤثر كل هذه الأنشطة بصورةٍ مباشرة وغير مباشرة على تركيا.
منصة أسباب وبالشراكة مع Caspian Report، تقدم لكم في هذا الفيديو شرحا لأهداف أنقرة الجيوسياسية في القارة الآسيوية.
يحتل الشطر الأعظم من تركيا شبه جزيرة الأناضول في الشرق بما يعادل 97% من مساحة البلاد تحديداً.
إذ تفصل شبه الجزيرة بين البحرين المتوسط والأسود.
- تُعَدُّ الأناضول عبارةً عن أراضٍ شاسعة ووعرة
- تفتقر إلى الأنهار الصالحة للملاحة
- تُعَدُّ مشروعات البنية التحتية والشركات التجارية أقل جدوى من الناحية الاقتصادية فيها
- كلما تقدمنا شرق خط طول 36° زادت وعورة التضاريس وارتفعت تكلفة المشروعات الاقتصادية
- تتمتع بساحل طويل، لكن غالبية أجزائه عبارة عن سهولٍ ممتدة وهي ميزة رائعة للسياحة،
- إن قلة موانئ المياه العميقة بطول ساحل الأناضول تعني محدودية الوصول البحري للبلاد
ولا شك أن هناك بعض الاستثناءات في أضنة وأنطاليا لكن الأناضول تُعتبر منطقة معزولةً بشكلٍ عام
الأناضول.. مزايا خاصة لتركيا
من الناحية التاريخية خدم هذا التخطيط الجغرافي الأمن، والحوكمة المركزية، وثقافة الانطواء في وضع مناقضٍ تماماً لوضع منطقة مرمرة ذات الآفاق العالمية، لكن الأناضول توفر بعض المزايا الخاصة لتركيا وأولها أنها:
- تمثل منطقةً عازلة تضمن منع أي قوةٍ آسيوية من تهديد قلب تركيا في الغرب
- ستكون تكلفة أي تدخل عسكري أجنبي من اتجاه الأناضول باهظة للغاية
- لن تكون غالبية الدول مستعدةً للمخاطرة بها
- إن الاحتفاظ بسيطرةٍ كاملة على الأناضول يُعَدُّ من الأولويات القصوى لصناع السياسة التركية
الأناضول.. وفرة في المياه
توفر الأناضول ميزةً أخرى تتمثل في وصولها إلى الموارد الطبيعية، إذ لا تمتلك تركيا الكثير من الموارد الهيدروكربونية لكنها تمتلك موردا أعلى في القيمة بمراحل، إذ تتمتع بوفرةٍ من المياه داخل واحدةٍ من أكثر مناطق العالم جفافاً.
ووفقاً للإحصاءات المائية يستقر المتوسط السنوي لمنطقة الشرق الأوسط عند 300 متر مكعب من الماء للفرد، بينما يتجاوز الرقم في تركيـا حاجز 3,100 متر مكعب للفرد كل عام.
ولا شك أن امتلاك تركيا لحصة مياه تعادل 10 أضعاف حصة جيرانها في الجنوب يُعَدُّ بمثابة أفضليةٍ طويلة الأجل لصالح أنقرة إذ إن نحو 90% من المياه التي تجري في نهر الفرات تحديداً تنبُع من جبال الأناضول في تركيا.
- تملأ أنظمة الأنهار سلة طعام المنطقة التي تمثل العراق المعاصر
- سيطرة تركيا على ضفاف منابع حوض دجلة والفرات تمنح أنقرة أفضليةً جيوسياسية طويلة الأجل على جيرانها في الجنوب
- تتسارع وتيرة هذه العملية بفضل حقيقة عدم وجود اتفاقٍ رسمي حول إدارة الماء بين العراق وسوريا وتركيا
أهمية السدود التركية
يعي صناع السياسة في أنقرة هذا الواقع جيداً حيث شيّدت تركيا نحو 600 سد على النهرين منذ الستينيات مع التخطيط لـ600 سد آخر خلال الـ40 عاماً المقبلة، تُعتبر العديد من هذه السدود جزءاً من مشروع جنوب شرق الأناضول الذي يستهدف تعزيز النشاط الاقتصادي في المنطقة وخاصةً في وسط شبه الجزيرة الذي يحتوي على هضبةٍ غنية بالزراعة.
لكن أهمية المشروع لا تتوقف عند مجرد إنتاج الطاقة وري المحاصيل فقط بل يتعلق الأمر بالنفوذ الجيوسياسي أيضاً.
- تسعى تركيا لتعزيز نفوذها الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة عن طريق تشييد السدود
- تجلى هذا الأمر في التسعينيات، عندما شيّدت البلاد سد أتاتورك الذي يُعتبر من أكبر السدود في العالم.
- أوقفت تركيا تدفق نهر الفرات لتعبئة الخزانات بعد الانتهاء من المشروع
- استغرقت العملية برمتها قرابة الشهر أو أكثر قليلاً
- أبلغ الأتراك نظراءهم السوريين والعراقيين مسبقاً لكن رد فعل دول المصب جاء غاضباً ليستجيب لهم الرئيس التركي أوزال آنذاك، قائلاً:
“نحن لا نخبر العرب ما يجب أن يفعلوه بنفطهم……ولهذا لن نقبل منهم أي مقترحات حول ما يجب أن نفعله بمياهنا” ويُعَدُّ هذا التصريح صائباً من الناحية العملية لكنه يكشف الستار عن المشاعر الجيوسياسية، ويزداد الموقف تعقيداً بسبب طفرة السكان في العراق وسوريا.
العراق:
- من المتوقع أن ينمو السكان من 38 مليون نسمة في عام 2017 إلى 83 مليون نسمة بحلول 2050 قبل أن يصلوا إلى 163 مليون نسمة بنهاية القرن الحالي
سوريا:
- سوف ينمو سكانها من 18 مليون نسمة في عام 2017 إلى 34 مليون نسمة بحلول منتصف القرن قبل أن يستقر عددهم
السيطرة على حوض دجلة والفرات: الخيار النووي التركي
لا شك أن استهلاك المياه سيزداد بالتزامن مع نمو أعداد السكان العرب. وبناءً عليه سيزداد اعتماد سوريا والعراق على جارتهما الشمالية لتلبية احتياجاتهما، وبمجرد الانتهاء من بناء بقية السدود الـ600 ستتمتع تركيا بالقدرة على تشكيل بيئة، وسكان، واقتصاد دمشق وبغداد والتحكم في شؤونهما السياسية والاجتماعية بالتبعية.
وربما لا تمتلك تركيا أي موارد نفط كبيرة كالسعودية وتفتقر إلى جماعات الوكالة المتطورة التي تمنح إيران نفوذاً كبيراً، لكن:
- سيطرة أنقرة على حوض دجلة والفرات تمنحها نفوذاً جيوسياسياً لا مثيل له
- يُمكن وصف هذا النفوذ بأنه الخيار النووي التركي
- يجب على الأتراك اعتبار سيطرتهم على ضفاف المنبع بمثابة هدف جيوسياسي
- يشعر فصيل آخر بالانزعاج من تنامي النفوذ التركي على حوض دجلة والفرات وهو حزب العمال الكردستاني، المصنف كجماعة إرهابية
- يستهدف حزب العمال الكردستاني سدود الأناضول ويهاجمها منذ زمن
- يزعم كبار أعضائه أن أنقرة تسعى لاستغلال سيطرتها على تدفق الماء من أجل تقويض حركة حزب العمال الكردستاني
- تحمل هذه المزاعم شيئاً من الصحة لأن تركيا تستطيع تقييد تحركات الجماعة عبر الحدود عن طريق إغراق بعض المناطق الاستراتيجية
- تركيا هي موطن لملايين الأكراد تربطهم علاقة معقدة مع الحكومة المركزية
- سعى حزب العمال الكردستاني لاستغلال التوترات الاجتماعية طيلة عقود
- سعت القوى الغربية لاستغلال صراع تركيا مع الحزب من أجل تقويض سلطة أنقرة
- يُعَدُّ هذا التعرض للتدخلات الخارجية بمثابة أكبر نقاط الضعف التركية
- من المستبعد أن تتعرض سلامة أقاليم البلاد للخطر على المدى البعيد لكن استمرار نشاط حزب العمال الكردستاني وهجماته على سدود دجلة والفرات يُفسد سيطرة أنقرة الكاملة على ضفاف المنبع
مما يعني أنه يجب على الحكومة التركية أن تحل نزاعها مع الميليشيات الكردية حتى تتمكن من استغلال أفضلية الماء التي تحظى بها.
إقرأ أيضاً:
الوديعة السعودية والاتفاقية الاقتصادية الإماراتية: تركيا تُحكم دائرة الشراكة مع دول الخليج
تداعيات زلزال تركيـا على السياسة المحلية والأوضاع الجيوسياسية
تركيـا من القوة الناعمة إلى الصارمة.. كيف غيّرت من نهج سياستها الخارجية؟
ما هي إمكانات تركيا كنقطةٍ محوريةٍ للطاقة؟
بعيداً عن نفوذ تركيا على جيرانها في الجنوب/ تستقر البلاد بين سوقين لإنتاج واستهلاك الطاقة، حيث توجد الدول الأوروبية من ناحية الغرب وتسعى لتنويع إمدادات طاقتها بعيداً عن روسيا، بينما تقع الدول المنتجة للطاقة الهيدروكربونية في الشرق وتسعى لتنويع الطرق التي تربطها بالأسواق الأوروبية.
- تمر الكثير من لوجستيات الطاقة عبر الطرق البحرية حالياً
- لا يستطيع الشرق والغرب الوصول إلى بعضهما البعض بصورةٍ فعالة نظراً لعدم وجود خطوط أنابيب
- يمر الطريق البري بين القارتين عبر تركيا أي إن تركيـا تستطيع تحويل نفسها إلى مركزٍ إقليمي للطاقة إذا أحسنت استغلال طبيعتها الجغرافية
- يمثل خط أنابيب الغاز عبر الأناضول أول جهد ملموس لتحقيق هذا الهدف
- يسعى الخط لتوصيل الغاز الطبيعي الأذربيجاني إلى أوروبا لكن مهمة العثور على مُورِّدين جدد تقع على عاتق صناع السياسة الأتراك
ومع ذلك، فقد تبيّن أن إتمام هذا الهدف صعب للغاية نظراً لأن الكثير من جوانبه تعتمد على الشؤون السياسية الإقليمية، إذ إن النزاعات القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية وإيران تُعرقل الأنشطة الاقتصادية الإقليمية، ويتعيّن على تركيا إيجاد طرق لحل هذا الجمود إذا كانت تريد تحويل نفسها إلى مركزٍ إقليمي للطاقة.
الشرق.. معابر القوقاز
في شرق الأناضول تندمج جبال الهضبة مع سلسلتي جبال القوقاز الصغرى والكبرى، وتُعتبر سلسلة الجبال الأخيرة من التضاريس الجبلية شديدة الانحدار والوعورة حيث تمتد من شواطئ البحر الميت وصولاً إلى بحر قزوين، وتمثل جبال القوقاز الكبرى حاجزاً لا يمكن اجتيازه تقريباً نظراً لمرور معبرين رئيسيين فقط من خلالها.
- الأول ممر دربند في الشرق الذي يمتد كشريطٍ مسطح بطول الساحل الأذربيجاني
- الثاني ممر داريال ويمتد من العاصمة الجورجية إلى منتصف سلسلة الجبال
فيما تمتد الأراضي المسطحة شمال هذين المعبرين وصولاً إلى قلب روسيا، وتتحكم روسيا في ممر داريال حالياً، ولديها مذكرة تفاهم مع أذربيجان فيما يتعلق بممر دربند، لكن عمق روسيا سيصبح مكشوفاً بالكامل إذا سقطت هذه المعابر بين أيدٍ معادية أي إن قيمة هذه الممرات تحتل المرتبة الثانية بعد القرم مباشرة من الناحية الاستراتيجية.
وإذا أرادت أي قوة التحكم في ممرات القوقاز فيتعين عليها تثبيت أقدامها أولاً في منطقة جنوب القوقاز التي تقطنها عشرات الجماعات العرقية.
- يُعَدُّ الأذربيجانيون أكبر جماعة عرقية في المنطقة بفارقٍ كبير
- يتشاركون علاقات ثقافية وثيقة مع الأتراك
- تقع أذربيجان على الساحل الغربي لبحر قزوين
- تتمتع بمساحةٍ كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة
- تُعتبر عاصمتها غنيةً بموارد الطاقة
- إذا حصلت أي قوة كبرى على موطئ قدمٍ في أذربيجان فسوف تحظى بالقدرة على تقييد تحركات روسيا وإيران والوصول إلى موارد الطاقة الوفيرة في المنطقة
تُمثل أذربيجان بوابة هذه الثروة والنفوذ بالنسبة لتركيا، لكن أنقرة ليس لديها طريق بري مباشر يربطها مع باكو، بل يجب أن يمر الطريق عبر جورجيا، وتعمل تركيـا على تثبيت أقدامها مالياً في القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بالتزامن مع سعي حكومتي تبليسي وباكو للإفلات من قبضة روسيا، وقد أسفرت علاقة المنفعة المتبادلة هذه عن عدد من مشروعات البنية التحتية والطاقة التي عززت نفوذ تركيـا في المنطقة بدرجةٍ كبيرة.
لكن موسكو ما تزال لها اليد العليا في القوقاز، رغم التقدم الذي أحرزته أنقرة لأنها تتحكم في مصير المناطق الانفصالية بجورجيا وأذربيجان، ويسمح هذا النفوذ للروس بإملاء شروطهم السياسية ليعززوا بالتبعية من سيطرتهم على معابر القوقاز لكن في حال تبدل وضع روسيا يوماً من الأيام فسيكون من مصلحة تركيا أن تسيطر على ممري داريال ودربند، ما سيمنح الأتراك أفضلية على الروس.
الجنوب.. فصائل متنوعة
إذا اتجهنا جنوباً أكثر صوب الشام فإن العوامل الجغرافية ليست وعرة بما يكفي لخلق خطوط انقسام متماسكة، حيث تستضيف مرتفعات الجبال مجموعةً متنوعة من الفصائل.
- يُعَدُّ لبنان موطناً لعشرات الجماعات العرقية
- تُعتبر بلاد الشام بمثابة شبكة من التحالفات والائتلافات
- اعتادت القوى الكبرى على دعم إحدى الجماعات ضد الأخرى لكن لم ينجح أحد في السيطرة على هذه المنطقة بحقٍ من مسافة بعيدة
- نجد أن كافة القوى التاريخية التي تواجدت في بلاد الشام قد انسحبت من أراضيها ولم تعد مطلقاً
وسواءً كنا نتحدث عن العثمانيين أو البريطانيين أو الفرنسيين أو الأمريكيين فلن تجد قوة أجنبية ترغب في الاحتفاظ بوجود طويل الأمد داخل الشام، ويُمكن اعتبار إيران بمثابة الاستثناء الوحيد حيث تحاول إنشاء ممرٍ يربطها بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، وربما تحظى طهران باليد العليا الآن لكن الأفضلية التي تتمتع بها أنقرة على حوض دجلة والفرات والتواجد البحري التركي في المتوسط سيفسدان الخطط الإيرانية الموضوعة على المدى البعيد، وفي هذا السياق من الأفضل لتركيا، ترك منطقة الشام على حالها كما هو حال اليونان مع حوض بانونيا في أوروبا.
البحر المتوسط
أما سلسلة الأهداف التركية الأخيرة في آسيا فتتمثل في تأمين أصول داخل البحر المتوسط، لكن المتوسط يختلف عن البحر الأسود نظراً لعدم وجود نقاط ثابتة يمكنها قلب الموازين في شرق المتوسط رغم وجود القليل من المناطق الجديرة بالاهتمام مثل جزيرتي قبرص ورودس، ولا شك أن الوجود في الجزيرتين سيمنح الأتراك حمايةً أكبر لساحل الأناضول في مواجهة أي هجوم برمائي.
- تُعتبر قبرص تحديداً مُهمةً لأنها بمثابة مركزٍ يُقيد حركة المنطقة الأوسع
- إن الوجود المادي التركي في شمال الجزيرة يسمح لقواتها البحرية بفرض الهيمنة على شواطئ ساحل الشام
- إذا نجحت أنقرة في السيطرة على كامل قبرص فسيبسط الأتراك نفوذهم وصولاً إلى منطقة السويس ودلتا النيل في مصر
تقع تركيا بين الغرب والشرق، وبين الشمال والجنوب ولهذا تؤثر النزاعات والأنشطة الإقليمية على تركيـا عادةً سواءً بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، ولهذا لا تتمتع تركيـا برفاهية عدم الاكتراث بل يجب عليها أن تتبع سياسةً استباقية لتأمين أهدافها الجيوسياسية في الأناضول والقوقاز والمتوسط، ويجب على تركيـا أن توسع وتُحدِّث قواتها الجوية والبرية حتى تتعامل بشكلٍ فعال مع التحديات على جانبها الآسيوي، لكن يجب عليها أن تحذر من مطاردة أهداف تفوق قدراتها أيضاً.