ملخص
● تمر علاقات “إسرائيل” ومحيطها العربي بتقدم غير مسبوق، يعيد تعريف العلاقة من مجرد التطبيع والعلاقات السرية، إلى “التحالف” والعلاقات الاقتصادية والأمنية ذات الطابع الإستراتيجي، وقد يفتح هذا المجال لـ”إسرائيل” كي تمارس دورا إقليميا محوريا، يستند إلى طبيعة الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، والذي يضمن لها تفوقا عسكريا في المنطقة، بالإضافة إلى تفوقها التكنولوجي وخبراتها الأمنية التي تأمل بعض دول المنطقة الاستفادة منها.
● طموح “إسرائيل” للقيادة الإقليمية ستواجه في المقابل بنفوذ قوى إقليمية أخرى، خاصة تركيا وإيران، فضلا عن حرص القوى العربية الرئيسية، خاصة مصر والسعودية، على عدم خصم الدور الإسرائيلي المتنامي في المجال العربي من نفوذهما التقليدي. أما داخليا، فإن التهديد الديمغرافي، وانتشار المقاومة الشعبية حتى في “الداخل الإسرائيلي”، وتنامي قدرات المقاومة المسلحة في غزة، كل هذه عوامل ترجح أن المراهنة على التطبيع مع تجاهل القضية الأساسية ممثلة في الاحتلال وملفات القدس واللاجئين والاستيطان ليس من المتوقع أن يعزز أمن الاحتلال.
● تمثل المخاوف من الدور الإيراني أحد مبررات بعض دول الخليج للعلاقات مع “إسرائيل”. كما عزز توجه الولايات المتحدة للتفاوض مع إيران من هذه المخاوف، وبالتالي تسبب في تسريع وتيرة التعاون الأمني بين هذه الدول و”إسرائيل”. ولكن في المقابل، تدفع احتمالات الاتفاق بين إيران والولايات المتحدة أيضا دول المنطقة إلى تبني نهج تصالحي مع إيران ومحاولة التوصل لتفاهمات ثنائية معها. لذلك، إذا توصلت طهران والقوى الغربية إلى اتفاق نووي، فإنه قد يؤدي إلى مزيد من التفاهم بين دول المنطقة وإيران، أكثر من أن يؤدي إلى تعزيز تحالف دول المنطقة مع “إسرائيل” في مواجهة إيران.
● ستستمر بعض دول المنطقة -مثل السعودية والإمارات- في اتباع نهج ذي مسارين لاحتواء التهديد الإيراني. فمن ناحية ستواصل التعاون مع “إسرائيل” باعتبارها قوة عسكرية وأمنية إقليمية فاعلة في جهود احتواء إيران، ومن ناحية أخرى ستسعى إلى تفاهمات ثنائية مع إيران، وهو ما قد يحد مع الوقت من وتيرة ومدى الاعتماد على “إسرائيل”، خاصة وأن هذه الأخيرة لا تستطيع توفير نفس الغطاء الدفاعي الذي توفره الولايات المتحدة لدول الخليج العربية.
● لا تعني وتيرة التعاون الواسعة بين “إسرائيل” ودول عربية ولادة نظام إقليمي جديد تقوده “إسرائيل” في ظل عدم تبني هذه الدول مقاربة واحدة تجاه الملفات الأساسية، بما فيها التعامل مع تركيا وإيران، وحدود العلاقات مع “إسرائيل” ومدى ارتباطها بالتقدم في القضية الفلسطينية، وغيرها من القضايا الإقليمية. وهو الأمر الذي تجلى في تراجع أجندة زيارة الرئيس “بايدن” للمنطقة من السعي لإقامة تحالف أمني إقليمي تقوده “إسرائيل” إلى الاكتفاء بتشجيع القادة العرب -في لقاءاته الثنائية معهم على هامش القمة- على زيادة التعاون مع “إسرائيل”.
مقدمة
- رأت الدول العربية في “إسرائيل” منذ تأسيسها حالة معادية لا يمكن التعايش معها في المنطقة. لكنّ هذه الرؤية تعرضت للخرق تدريجيا، عبر علاقات واتصالات سرية خاصة مع المغرب والأردن، ثم جاء التحول الأساسي عبر اتفاقية السلام الموقعة في كامب ديفيد مع مصر عام 1978، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، سبقها اتفاقية أوسلو بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، والتي تم استكمالها في اتفاقية أوسلو2 (اتفاقية طابا) عام 1995. في عام 2002، قدمت السعودية “مبادرة السلام العربية” وتبنتها الدول العربية في اجتماع القمة المنعقد في بيروت، والتي تنص على اعتراف الدول العربية بدولة “إسرائيل” وتطبيع العلاقات معها مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وحل مشكلة اللاجئين، والانسحاب الإسرائيلي من الجولان السوري المحتل.
- في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، دخلت العلاقات العربية الإسرائيلية مرحلة جديدة، حيث أدى شعور عدم الاستقرار الداخلي لدى العديد من الأنظمة في المنطقة نتيجة تداعيات ثورات الربيع العربي بالإضافة لتنامي “التهديد الإيراني”، إلى التسويق للعلاقات مع “إسرائيل” من زاوية المنافع الأمنية والاقتصادية المشتركة، وليس من زاوية “القضية الفلسطينية”. ظهر هذا في “اتفاقيات أبراهام” مع الإمارات والبحرين والمغرب والسوادان والتي استندت إلى حوافز أمنية ودبلوماسية واقتصادية أمريكية للدول المطبعة دون ربط مسار التطبيع بالقضية الفلسطينية. من جانب واشنطن وتل أبيب، تأتي هذه الاتفاقيات ضمن مساع لبناء نظام أمني إقليمي جديد تلعب فيه “إسرائيل” دور القيادة بحكم تفوقها التكنولوجي، وبما يسد فراغ تراجع الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة.
“إسرائيل” من “السلام البارد” إلى الاندماج في النظام الإقليمي
- نظرا لفقدان دولة الاحتلال الإسرائيلي لعمق إستراتيجي، وتمركز أغلب مواطنيها والمراكز الصناعية في منطقة ضيقة على السهل الساحلي المطل على البحر المتوسط، فقد أولت تل أبيب للجغرافيا أهمية كبيرة. حيث تتخوف من قدرة الصواريخ التي قد يطلقها خصومها على تعطيل الحياة اليومية، وإلحاق أضرار فادحة بالمنشآت والأصول الحيوية الإسرائيلية، فضلا عن عرقلة عملية تعبئة قوات الاحتياط في حالة اندلاع القتال. وبالتالي يساهم تطبيع العلاقات مع الدول العربية على النمط الذي أسست له “اتفاقات أبراهام”، في تدشين تعاون أمني يساهم في تأمين الداخل الإسرائيلي من خلال دمجه في محيطه الإقليمي، وتوسيع نطاق قدرات الإنذار المبكر الإسرائيلية، وتعزيز الحصار للجهات المناوئة لتل أبيب، بالإضافة إلى خلق روابط اقتصادية إستراتيجية تجعل من “الاستقرار” مصلحة متبادلة بين “إسرائيل” وجيرانها العرب.
- ساعد نقل إدارة “ترامب” في يناير/كانون الثاني 2021 لإسرائيل إلى نطاق عمليات القيادة المركزية الأمريكية بدلا من القيادة الأمريكية الأوروبية، على تشجيع التشغيل البيني العسكري والتدريبات العسكرية بين “إسرائيل” ودول عربية حليفة لواشنطن. والتي بدأت في نوفمبر تشرين/الثاني 2021 بتدريب عسكري مشترك في البحر الأحمر جمع قوات بحرية من الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي والإمارات البحرين. وفي يناير/كانون الثاني 2022 وقعت “إسرائيل” مذكرة تعاون أمني مع البحرين تضمنت إجراء تدريبات مشتركة وتعيين ضابط ارتباط في المنامة ليعمل أيضا ملحقا عسكريا إسرائيليا على مقربة من إيران. ويشرف ضباط من جهازي الموساد والشاباك على تدريب رجال الاستخبارات في البحرين، وعلى إعادة هيكلة أجهزة الأمن البحرينية وتطوير قدراتها التكنولوجية. كما اتفقت “إسرائيل” مع المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على تعزيز التعاون العسكري الثنائي، وتأسيس لجنة عسكرية مشتركة، فضلا عن إنتاج طائرات مسيرة في المغرب بتقنيات إسرائيلية.
- عقب شن الحوثيين هجمات على الإمارات في أوائل العام الجاري فضلا عن هجماتهم المتكررة في الداخل السعودي، طُرح تبادل المعلومات الاستخباراتية بشكل آني بين “إسرائيل” ودول الخليج إزاء تهديدات الطائرات بدون طيار والصواريخ، فضلا عن مناقشة إنشاء منظومة دفاع صاروخي إقليمي تشمل “إسرائيل” ودول الخليج ومنها السعودية التي تشارك في النقاشات الجارية حول المشروع رغم عدم انضمامها رسميا لـ”اتفاقيات أبراهام”. يستهدف هذا المشروع الذي بدأ الترويج له منذ حكومة “نتنياهو”، أن تلعب “إسرائيل” دورا أمنيا جوهريا في المنطقة عبر تصدير منظوماتها الدفاعية للخليج. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه هذا المشروع، فإن نشر بطاريات باتريوت الإسرائيلية في دول بالمنطقة -بينها الإمارات والبحرين- يعزز من تنامي الدور الأمني للاحتلال.
- بعد هواجس أمنية وجيوسياسية أزعجت القاهرة عقب توقيع “اتفاقيات أبراهام”، تحاول مصر الآن تجنب التخلف عن ركب التكامل الإقليمي المتزايد لإسرائيل. فقد وصل تطور العلاقات مع مصر ذروته مع السماح للجيش الإسرائيلي بشن غارات في سيناء ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ثم الاتفاق على ربط حقل ليفاثان الإسرائيلي بوحدتي إسالة الغاز بدمياط وإدكو، مما عزز تقاسم القاهرة وتل أبيب بصورة إستراتيجية؛ بنية تحتية تصديرية رئيسية للغاز بالمنطقة، وطوّر العلاقة بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق من الشراكة، وهو ما دفع تل أبيب لأن تطلب بصورة متكررة من واشنطن تخفيف ضغوطها على النظام المصري فيما يخص الوضع الحقوقي. في الحقيقة، بات التعاون الثنائي المباشر بين الجيشين المصري والإسرائيلي مسألة وقت تتطلب فقط تهيئة الرأي المصري واختيار السياق المناسب للإعلان عن مثل هذه الخطوة.
- تتمسك السعودية -على الأقل طالما ظل الملك سلمان في الحكم- برفض توقيع اتفاق سلام مع “إسرائيل” منفصل عن حل القضية الفلسطينية. لكنّ وتيرة التعاون الأمني بين الجانبين تسارعت خلال السنوات القليلة الأخيرة، على وقع استثمار “إسرائيل” مخاوف السعودية تجاه النفوذ الإيراني في المنطقة، وصولا إلى موافقة “تل أبيب” على تسلم السعودية السيادة على جزيرتي “تيران وصنافير” ضمن ترتيبات أمنية توسطت فيها واشنطن. لذلك، ومع الأخذ في الاعتبار الاتصالات العسكرية في إطار القيادة المركزية الأمريكية، والعلاقات الاقتصادية، وفتح المجال الجوي السعودي للطائرات المدنية الإسرائيلية، فإن السعودية بذلك أصبحت أقرب إلى “عضو الأمر الواقع” في “اتفاقيات أبراهام” بغض النظر عن مسألة التوقيع رسميا على اتفاق. وتشير حماسة البحرين اللافتة في تطوير العلاقات مع “إسرائيل”، إلى مستوى قبول من المملكة العربية السعودية. ومن المرجح أن تواصل السعودية بعض التعاون بشأن المخاوف الأمنية المشتركة وفي الوصول إلى التكنولوجيا الإسرائيلية المتخصصة، من خلال قنوات خلفية.
- وفي ظل مساعي تركيا لاحتواء التوترات الخارجية وتطبيع علاقاتها مع منافسيها الإقليميين، تراجع الجمود في العلاقات الإسرائيلية التركية خلال عام 2022 مع زيارة الرئيس الإسرائيلي “هرتسوغ” إلى تركيا، تمهيدا لتعزيز التعاون في ملف الطاقة والغاز في شرق المتوسط. كما ظهر لافتا تنامي التنسيق الأمني مجددا بين الجانبين على وقع المحاولات الإيرانية لاستهداف “إسرائيليين” على الأراضي التركية.
- تبدي الإدارة الأمريكية التزامها بدعم جهود توسيع “اتفاقيات أبراهام”، لكن من غير المرجح أن يعطي “بايدن” الأولوية لهذه الأجندة إلى حد ممارسة ضغوط على دول المنطقة على غرار إدارة “ترامب”، وهو ما ظهر واضحا خلال زيارته للمنطقة؛ حيث تجنب طرح ملف التحالف الدفاعي الإقليمي الذي يشمل “إسرائيل” في القمة التي جمعته مع قادة 9 دول عربية في السعودية، واكتفى بتشجيع بعضهم على مزيد من التعاون مع “إسرائيل” خلال لقاءاته الثنائية معهم على هامش القمة.
إقرأ أيضاً:
دعم “إسرائيل” لأوكرانيا يضعها في مواجهة خيارات صعبة بين روسيا والغرب
“بايدن” يعود للشرق الأوسط بمشروع دفاعي يوحد حلفاءه مع “إسرائيل” ضد إيران
اجتماع النقب: “إسرائيل” تقود حلفاءها الجدد دون أجندة إقليمية موحدة
إيران.. وضع أمني حساس واقتصاد متهاوٍ وتوترات خارجية تميل للحرب
هل أصبحت “إسرائيل” أكثر أمنا؟
- في ظل عمليات التطبيع المتسارعة التي تجاوزت مفهوم “التطبيع” المعتاد إلى مستوى من الشراكة غير المسبوقة، لم تعد “إسرائيل” تواجه خصما يتكون من تحالف من الدول القومية العربية يشكل تهديدا عبر شن حروب نظامية، إنما أصبحت تواجه نوعا مختلفا من التهديدات غير التقليدية. فبخلاف التهديد التقليدي المتمثل في إيران وبرنامجها النووي ونفوذها الإقليمي المتزايد، تبرز التنظيمات دون الدول مثل حركة “حماس” و”حزب الله” اللبناني والفصائل العراقية الموالية لإيران والحوثيين في اليمن. بالإضافة إلى ذلك، باتت عمليات المقاومة الشعبية الفردية في داخل فلسطين المحتلة تربك أجهزة الأمن الإسرائيلية في ظل صعوبة اكتشافها وإحباطها قبل وقوعها، واتساع خريطتها لتشمل القدس والضفة وأراضي عام 1984.
أولا: مقاومة الفلسطينيين مستمرة
- استخدم الجيش الإسرائيلي الاغتيالات والاعتقالات ومصادرة الأموال ضد الفصائل الفلسطينية فضلا عن العقاب الجماعي للسكان في غزة والضفة، كما هدم منازل منفذي الهجمات ضد المستوطنين. ورغم ذلك تواصلت هجمات الفلسطينيين مما أدى خلال الثلث الأول من عام 2022 إلى سقوط نحو 20 قتيلا إسرائيليا، وهو رقم كبير عند مقارنته بأمثاله في السنوات السابقة.
- وفيما يخص الصراع مع غزة، تشتد ضراوة كل جولة جديدة من القتال، ووصل مدى الصواريخ المنطلقة من غزة إلى تل أبيب وحيفا، ورسخت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” حضورها في الساحة الفلسطينية كأبرز مدافع عن القدس بالتوازي مع تعزيز قوتها وبنيتها التحتية في غزة. وفي الضفة الغربية، تتدهور مكانة السلطة الفلسطينية التي أصبحت تواجه المجهول مع اقتراب حقبة ما بعد الرئيس “محمود عباس”. ورغم التنسيق الأمني فقد تحولت جنين ونابلس إلى معاقل للمقاومة، كما سجلت حركة “حماس” مؤشرات لافتة على حضورها في الضفة من خلال الانتخابات الطلابية والنقابية.
- وفي داخل أراضي الـ48، أسفرت احتجاجات الفلسطينيين خلال معركة “سيف القدس” في عام 2021 عن مقتل 3 إسرائيليين (يهود) وإصابة 450 آخرين في المدن المختلطة بين العرب واليهود، وهو ما أثار مخاوف إسرائيل تجاه استقرار الجبهة الداخلية. كما استمر التوتر مع بدو النقب على خلفية سياسات الاستيطان والتهجير، وبالتالي لم تعد جبهة غزة بمفردها هي التي تمثل بؤرة ساخنة، إنما امتد الأمر لعموم الضفة والقدس وأراضي الـ48.
- بالإضافة لذلك، مازالت حكومة الاحتلال عاجزة عن احتواء التهديد الديمغرافي مع توقع وصول عدد الفلسطينيين في الأراضي ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن إلى 13 مليونا في عام 2050 مقارنة بنحو 10.6 ملايين يهودي. فمنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تتراجع نسبة اليهود في مناطق “القدس الشرقية”، حيث بلغت 46٪ في عام 1996، وسجلت 39٪ في عام 2020. وبينما استهدفت سلطات الاحتلال خفض نسبة السكان العرب في القدس إلى 20٪ بحلول عام 2020، فإن نسبة السكان العرب في القدس تبلغ حوالي 40٪. ومن خلال فحص البيانات في الفترة من 2015-2020، تراوحت نسبة النمو السكاني العربي في القدس بين 2.4% و2.7%، بينما تراوحت نسبة نمو السكان اليهود بين 1.5% و2.2%. ويأتي تراجع النمو السكاني لليهود في القدس رغم ارتفاع معدل الخصوبة بين النساء اليهوديات ليبلغ 4.4 مقارنة بـ3.1 بين النساء العربيات؛ وذلك نتيجة تسجيل صافي هجرة بين اليهود بالسالب بلغ سالب 6 آلاف عام 2018 انتقلوا للعيش في المستوطنات أو مدن أخرى مثل تل أبيب.
- تشير تلك الأوضاع إلى أن المراهنة على التطبيع مع تجاهل القضية الأساسية ممثلة في الاحتلال، وملفات القدس واللاجئين والاستيطان.. إلخ، ليس من المتوقع أن يعزز أمن الاحتلال كما تطمح حكومته، فضلا عن مساهمة المقاومة الفلسطينية بأشكالها المتنوعة في تعميق الانقسامات السياسية بين الإسرائيليين وزيادة تآكل الثقة تجاه المؤسسات الحكومية على خلفية اختلاف وجهات النظر تجاه إدارة العلاقة مع الفلسطينيين، وهو ما يتضاعف أثره مع عدم وجود ساسة إسرائيليين مخضرمين محل إجماع مما أدى لتكرار انتخابات الكنيست 5 مرات خلال آخر عامين.
ثانيا: تمدد النفوذ الإيراني وخطر الحرب على جبهات متعددة
- تضع تل أبيب التهديد الإيراني في مقدمة التهديدات التي تخشى منها، وبالأخص المشروع النووي الذي سيغير التوازنات بالمنطقة في حال تمكن طهران من امتلاك قنبلة نووية. فضلا عن ذلك، فإن التهديد الإيراني تصاعدت حدته في ظل مساعي إيران الحثيثة لتعميق نفوذها في المناطق القريبة من “إسرائيل” عبر دعم تنظيمات وجماعات متنوعة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، ومدها بصواريخ دقيقة وطائرات مسيرة وأسلحة تتيح فتح عدة جبهات متزامنة ضد “إسرائيل”.
- في مواجهة ذلك، تخوض “إسرائيل” ما تسميه بـ”الحملة بين الحروب” لردع الخصوم وتقويض قدراتهم، وهو ما يتضمن شن ضربات استباقية تعتمد على معلومات استخباراتية عالية الجودة داخل إيران تستهدف منشآت صناعة الصواريخ والطائرات المسيرة، والعلماء النوويين، فضلا عن الاستهداف المتواصل للوجود الإيراني في سوريا، وعمليات نقل الأسلحة المتطورة من إيران إلى “حزب الله” في سوريا والعراق، وأخيرا توجيه ضربات مكثفة أثناء جولات القتال مع غزة للحد من تطور قدرات المقاومة الفلسطينية.
- في ظل استشعار تل أبيب باحتمال تدهور “الحملة بين الحروب” لصراع عسكري موسع، فقد دشن الجيش الإسرائيلي في مايو/أيار 2022 مناورة عسكرية واسعة النطاق لمدة أربعة أسابيع تهدف لمحاكاة القتال على عدة جبهات في وقت متزامن، وبالتحديد مع سوريا ولبنان وغزة وإيران فضلا عن مواجهة اضطرابات داخل أراضي الـ48.
- ورغم تلك الجهود، فإن المشروع النووي الإيراني يمضي قدما، ودقة الصواريخ الإيرانية تزداد رغم الحصار، والنفوذ الإيراني أصبح راسخا في سوريا، وتسليح “حزب الله” يتطور حتى أنه امتلك مؤخرا صواريخ مضادة للسفن يبلغ مداها 1000 كم، كما أن التحسّن المضطرد في قدرات فصائل المقاومة في غزة وقدرتها على تهديد الأمن الداخلي للاحتلال لم يعد محل شك.
ثالثا: هشاشة الاستقرار الإقليمي
- يتسم الوضع السياسي في المنطقة بالهشاشة وإمكانية الانهيار المفاجئ في أي لحظة، حيث تواجه العديد من الأنظمة العربية التي تؤثر أوضاعها على “إسرائيل” تحديات داخلية كبيرة. على سبيل المثال، يعيش الأردن أزمة عميقة داخل العائلة المالكة تتزامن مع تردي الأوضاع الاقتصادية وتصاعد الانتقادات لسياسات الملك. وكذلك تنزلق مصر إلى أزمة اقتصادية متفاقمة تُضاف إلى الانسداد السياسي، فضلا عن التداعي الاقتصادي غير المسبوق والتأزم السياسي في لبنان.
- وتخشى تل أبيب من أن تدفع الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن تداعيات انتشار فيروس كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا باتجاه سيناريو الانهيار الاقتصادي الذي يقود إلى اضطرابات مجتمعية تسفر عن تغيير النخب الحاكمة في الدول العربية المجاورة، ووصول نخب جديدة للسلطة يمكن أن تنخرط في اضطرابات إقليمية تؤثر على أمن “إسرائيل”. ولذا يوصي التقرير الإستراتيجي لإسرائيل الصادر عن مركز هرتسيليا في عام 2022 بضرورة إبقاء دول الخليج ومصر والأردن تحت مظلة الدعم الأمريكي، باعتبار أن حماية هذه الأنظمة يمثل ضمانة للاستقرار الإقليمي كما تتصوره “إسرائيل”.
رابعا: تداعيات صراعات القوى الكبرى
- أدى تغيير أولويات واشنطن من مكافحة الإرهاب إلى كبح الصعود الصيني لنقل التركيز الأمريكي من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ثم جاء اشتعال الصراع الروسي الغربي في ملف أوكرانيا ليدفع باتجاه توريط “إسرائيل” في صراعات الدول الكبرى، والحد من قدرتها على توثيق علاقاتها مع خصوم الولايات المتحدة، وعرقلة المشاريع الاقتصادية المشتركة وعمليات التعاون العسكري مع الصين وروسيا.
- تضغط واشنطن على تل أبيب لاتخاذ مواقف أكثر تقدما تجاه دعم أوكرانيا بأسلحة معينة، وهو ما ترفضه تل أبيب حتى الآن وتكتفي بالدعم السياسي خشية أن ترد موسكو بتفعيل منظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا مما يحد من قدرة سلاح الجو الإسرائيلي على العمل في سوريا. لكن، مؤخرا تصاعدت الأمور بين الجانبين؛ حيث طلبت وزارة العدل الروسية من القضاء الروسي إغلاق فرع “الوكالة اليهودية للهجرة لإسرائيل”، وهي خطوة حذرت حكومة الاحتلال من أنها ستؤثر على علاقة البلدين. كما أقر وزير دفاع الاحتلال “بيني غانتس” بتفعيل روسيا منظومة “إس-300” ضد طائرات إسرائيلية للمرة الأولى، أثناء تنفيذها هجمات في سوريا في مايو/أيار الماضي.
- وكذلك تضغط واشنطن على تل أبيب لتحجيم انخراط الصين في الاقتصاد الإسرائيلي، وأعادت البحرية الأمريكية النظر في رسو سفنها بشكل دوري في القاعدة البحرية بحيفا إثر فوز شركة صينية بعقد تشغيل الميناء لمدة 25 عاما. وكذلك تمارس واشنطن عمليا حق النقض على مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى الصين، وهو ما يعرقل تعميق العلاقات الصينية الإسرائيلية.
هل تعوض “اتفاقيات أبراهام” تراجع الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة؟
- الانشغال الأمريكي بالصين وروسيا يقلل من اهتمام واشنطن بقضايا الشرق الأوسط. وقد ساهم الانسحاب الفوضوي للجيش الأمريكي وحلفائه من أفغانستان، وخفض الوجود الأمريكي في العراق وسوريا؛ في تعزيز شعور حلفاء واشنطن العرب بأنها تقلص التزامها بحماية أمنهم. ومع الانشغال العالمي بقضايا مثل انتشار كورونا، وحرب أوكرانيا، والتغير المناخي، وأزمة الغذاء وتضخم الأسعار.. أصبحت دول المنطقة مخولة بمواجهة التحديات الداخلية والخارجية بنفسها، حيث حصدت القوى الإقليمية نفوذا متزايدا أتاح لها التأثير أكثر من أي وقت مضى في سير الأحداث، كما أصبح لديها هامشا أوسع للتصرّف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، بغض النظر عن أهداف الولايات المتحدة وأولوياتها.
- لا شك في أن “إسرائيل” تجد في هذه الحالة فرصة مواتية تعمل على استغلالها في كسر طوق العزلة وتوسيع نفوذها بغرض تعزيز أمنها، وذلك من خلال تقديم نفسها كشريك أمني لدول الخليج ومصر خاصة في الملفات التي تشغل أمن هذه الأنظمة، مثل الملف الإيراني والإسلاميين. تقدم “إسرائيل” نفسها كعامل استقرار يمكن الاستفادة من مكانته الخاصة لدى واشنطن في أن تصبح رأس سهم التحالف الإقليمي الذي يتشكل لسد الفراغ الذي يخلفه تراجع الانتشار العسكري الأمريكي بالمنطقة، وهو ما تجلى في استضافتها لقمة النقب بحضور وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والإمارات والمغرب والبحرين، والتي تمخض عنها منتدى للعلاقات يجمع هذه الدول، ويركز بصورة أساسية على قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري، كما يتجلى في الترويج لمشروع التحالف الإقليمي الذي ستلعب فيه “إسرائيل” دور القيادة نظرا لتفوقها العسكري.
- لكن في المقابل، يضع تراجع الالتزام الأمريكي تجاه المنطقة كافة القوى الإقليمية أمام فرصة لممارسة نفوذ أوسع؛ ليس فقط “إسرائيل”، ولكن أيضا إيران وتركيا والسعودية ومصر. فإيران تقف في خانة العداء الصريح مع “إسرائيل”، وتبدو مساعي واشنطن ودول إقليمية لإضعافها غير كافية لاحتواء صعود طهران كقوة إقليمية. أما تركيا فموقعها كقوة إقليمية لم يعد محل شك خاصة بعد ترسخه خلال السنوات القليلة الماضية، ومن المرجح أن يتعزز أكثر على وقع التغيرات الدولية المرتبطة بحرب أوكرانيا. وعلى المستوى الإستراتيجي، تمثل كل من تركيا وإيران تحديا أمام مساعي بناء نظام إقليمي تهيمن عليه “إسرائيل”.
- عربيا، وعلى الرغم من تراجع الدور المصري وحدود القوة السعودية، فإن الدولتين ليس من المرجح أن تقبلا بمعادلة تبعية إقليمية لإسرائيل، وستعملان على المدى الطويل للحد من النفوذ الإسرائيلي في المجال العربي؛ إن لم يكن لأسباب تتعلق بتعريف “إسرائيل” التقليدي كتهديد فسيكون ذلك لأسباب جيوسياسية تعتبر النفوذ الإسرائيلي مثل التركي والإيراني منافسا لموقع الدولتين ودورهما في العالم العربي.
- من جهة أخرى، يحفز الموقف الأمريكي أيضا توجها معاكسا لمساعي تنامي الدور الإسرائيلي في المنطقة. فبينما تمثل المخاوف من الدور الإيراني أحد مبررات العلاقات مع “إسرائيل”، فإن توجه الولايات المتحدة للتفاوض مع إيران وتأكيدها لحلفائها أنها مازالت متمسكة بالتوصل لاتفاق نووي، لم يؤد فقط لمحاولة تحقيق توازن من خلال التعاون الأمني مع “إسرائيل”، ولكن في المقابل دفع أيضا دول المنطقة إلى أن تتبنى نهجا تصالحيا مع إيران وتحاول التوصل لتفاهمات ثنائية معها. وهو ما يظهر في الموقف الإماراتي والسعودي، فضلا عن تبني مصر الدائم لسياسة تقوم على عدم تحويل الخلاف مع إيران إلى مواجهة إقليمية. وإذا توصلت طهران والقوى الغربية إلى اتفاق نووي، فإن احتمالات أن يؤدي إلى مزيد من التفاهم بين دول المنطقة وإيران تبدو مرجحة أكثر من احتمالات أن يؤدي إلى تعزيز تحالف دول المنطقة مع “إسرائيل” في مواجهة إيران.
- والأهم من ذلك، فإن “إسرائيل” ليست مؤهلة عسكريا لملء كل فراغ تتركه واشنطن. فدول الخليج تنتظر من الولايات المتحدة استمرار التزاماتها تجاه حمايتها عسكريا من التهديدات الخارجية، وهي مهمة لا يمكن لإسرائيل القيام بها. وفي الواقع، تستهدف تل أبيب تعزيز التحالفات الأمنية مع دول المنطقة لتعزيز أمن “إسرائيل” نفسها وليس للقيام بدور واشنطن في حماية هذه الدول. وفي ظل احتدام التنافس الدولي بين واشنطن من جهة، وكل من بكين وموسكو من جهة أخرى، فلا يبدو أن الولايات المتحدة بصدد التخلي عن هذا الدور أصلا، وهو الأمر الذي استهدف “بايدن” التأكيد عليه خلال زيارته للمنطقة منتصف يوليو/تموز الماضي.
خاتمة
- تمر علاقات “إسرائيل” ومحيطها العربي بتقدم غير مسبوق، يعيد تعريف العلاقة من مجرد التطبيع والعلاقات السرية، إلى “التحالف” والعلاقات الاقتصادية والأمنية ذات الطابع الإستراتيجي. وقد يفتح هذا المجال لـ”إسرائيل” كي تمارس دورا إقليميا محوريا يستند إلى طبيعة الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، والذي يضمن لها تفوقا عسكريا في المنطقة، بالإضافة إلى تفوقها التكنولوجي وخبراتها الأمنية التي تأمل بعض دول المنطقة الاستفادة منها. وسيواجه هذا الدور المحوري في المقابل بنفوذ قوى إقليمية أخرى، خاصة تركيا وإيران، فضلا عن حرص القوى العربية الرئيسية -خاصة مصر والسعودية- على عدم خصم الدور الإسرائيلي المتنامي في المجال العربي من نفوذهما التقليدي.
- لكن استمرار مقاومة الفلسطينيين لفرض أمر واقع دون تسوية مُرضية، خاصة مع تكريس نموذج الفصل العنصري في الأراضي المحتلة والذي يغذي من دوافع المقاومة الشعبية حتى داخل “الخط الأخضر”، وتفاقم الصراعات بين اللاعبين الكبار في الحلبة الدولية، واستمرار مشروع التمدد الإيراني رغم الضغوط التي يتعرض لها، والاستقرار الإقليمي الهش، فضلا عن تفاقم الانقسامات السياسية والأيدولوجية والعرقية داخل كيان الاحتلال.. كل هذه أمور توجد حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل الحضور الإسرائيلي في المنطقة، وتشير إلى أن الصعود الإسرائيلي يحمل في داخله عوامل ضعف مزمنة.
- خطط الولايات المتحدة للتوصل إلى صفقة مع إيران، وتراجع أولوية منطقة الشرق الأوسط لديها، تترك للحلفاء الإقليميين هامشا أوسع للدفاع عن أنفسهم وتشكيل السياسة الإقليمية وفق مصالحهم الخاصة. بعض هذه الدول -مثل السعودية والإمارات- ستستمر في اتباع نهج ذي مسارين لاحتواء التهديد الإيراني. فمن ناحية ستواصل التعاون مع “إسرائيل” باعتبارها قوة عسكرية وأمنية إقليمية فاعلة في جهود إحتواء إيران. ومن ناحية أخرى تسعى هذه الدول إلى التوصل لتفاهمات ثنائية مع إيران، وهو ما قد يحد مع الوقت من وتيرة ومدى الاعتماد على “إسرائيل”، خاصة وأن هذه الأخيرة لا تستطيع توفير نفس الغطاء الدفاعي الذي توفره الولايات المتحدة لدول الخليج العربية.