الحدث
● أعلن رئيس أذربيجان، “إلهام علييف”، استعادة “السيادة” على إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه مع أرمينيا. وقد شنت باكو عملية عسكرية خاطفة على الإقليم يوم 19 سبتمبر/أيلول، تضمنت ضربات جوية مكثفة وطائرات بدون طيار وقصف مدفعي، وفي أقل من يومين استسلمت سلطات الإقليم الانفصالية، وحلت قواتها المسلحة وسمحت للجنود والمدنيين المحليين بمغادرة المنطقة عبر ممرات إنسانية كجزء من وقف لإطلاق النار بوساطة روسية. من جانبه؛ التقى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، نظيره “علييف” في منطقة ناختشيفان الأذربيجانية، الواقعة بين أرمينيا وإيران ولها حدود صغيرة مع تركيا، وقال إن “انتصار أذربيجان في قره باغ يعزز فرص تطبيع العلاقات في المنطقة”، داعيا أرمينيا لاغتنام فرصة الاستقرار والسلام في المنطقة.
التحليل: انتصار أذربيجان في كاراباخ يعيد تشكيل النفوذ في جنوب القوقاز
مثل انهيار الاتحاد السوفيتي نقطة الاشتعال بين الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ الواقع داخل أذربيجان ويسكنه نحو 120 ألف شخص من العرقية الأرمنية، وقد دامت الحرب الأولى بين الدولتين 6 سنوات، وانتهت عام 1994 بسيطرة أرمينيا على كاراباخ وعلى مساحات وذاسعة مجاورة للإقليم. بينما استعادت أذربيجان في حرب عام 2020 المناطق المجاورة للإقليم بعد صراع استمر 6 أسابيع، انتهى باتفاق لوقف إطلاق نار بوساطة روسية، بموجبه تم نشر قوة حفظ سلام روسية قوامها 1960 جندي في ممر لاتشين (Lachin corridor) الضيق الواصل بين الإقليم والأراضي الأرمينية.
- فرضت باكو في أبريل/نيسان الماضي نقطة تفتيش على ممر لاتشين، تتحكم في طريق الإمداد الحيوي لمنطقة ناغورنو كاراباخ المعزولة، لتأكيد سيطرتها على الأراضي التي تنتمي قانوناً إلى أذربيجان ولكنها تظل خارج نطاق سيادتها بموجب اتفاقية وقف إطلاق النار عام 2020. فيما جاء الرد الروسي خافتاً على إنشاء نقطة التفتيش، حيث أعربت فقط عن مخاوفها من أن تمثل انتهاكا للهدنة.
- قدرت أذربيجان أن المتغيرات الدولية تمنحها فرصة استثنائية لاستعادة الإقليم، وتشمل تلك المتغيرات ما يلي:
- تواجه روسيا صعوبات في ساحة المعركة مع أوكرانيا تحد من قدرتها على التدخل عسكريا في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، فضلا عن ضغوط أمريكا وحلفائها الغربيين لعزلها دوليا، كما أن العلاقات الروسية الأرمينية لم تعد على نفس الدرجة من القوة.
- تعد إيران داعماً لأرمينيا، لكنها ليست في وضع يسمح بتقديم المساعدة العسكرية للانفصاليين الأرمن. في المقابل؛ يظل الدعم التركي لأذربيجان ثابتا وحاسما في دعم جهودها العسكرية.
- تدرك أذربيجان أهميتها الجيوسياسية، حيث تعد أحد مصادر إمدادات أوروبا من الغاز الطبيعي بدلاً من روسيا، عبر ممر الغاز الجنوبي المار بتركيا، كما يمثل خط أنابيب النفط باكو-تبليسي-جيهان أهمية لأمريكا التي تسعى إلى زيادة الإنتاج العالمي وضمان استقرار أسعار النفط. وتعد أذربيجـان بوابة إلى دول آسيا الوسطى وطريق النقل الدولي “الممر الأوسط” TITR))، الذي يربط أوروبا بالصين عبر آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ويوفر بديلاً للمرور عبر روسيا.
- بالرغم من أن التزام روسيا بالدفاع عن أرمينيا بموجب معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، إلا أن علاقات الجانبين قد شهدت مؤخرا تطورات تشير إلى تدهور محتمل، حيث:
- اتجهت أرمينيا إلى تعزيز علاقتها مع أمريكا، حيث أجريت مناورة عسكرية مشتركة للمرة الأولى بين البلدين في الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر/أيلول الماضي، كما انتقد رئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان” الدور الروسي المتراجع في جنوب القوقاز، ووصف اعتماد أرمينيا الأمني على روسيا بأنه “خطأ استراتيجي”.
- أرسل “باشينيان” مشروع قانون انضمام أرمينيا للمحكمة الجنائية الدولية إلى البرلمان الأرميني الذي أقره يوم 3 أكتوبر/تشرين أول، وهي خطوة تشير إلى الرغبة في تجنب استقبال الرئيس الروسي الصادر بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي دفع موسكو إلى وصف الخطوة الأرمينية بأنها “معادية للغاية”.
- ومع ذلك؛ فإن من المبكر الجزم بأن أرمينيا بصدد تحول استراتيجي كبير بعيدًا عن روسيا، لكن الأرجح أنها لم تعد تراهن على موسكو كحليف دولي وحيد. حيث مازالت الروابط الاقتصادية والأمنية بين البلدين متأصلة، ولم تنضم أرمينيا إلى جهود الغرب لعزل موسكو، بل عززت علاقاتها الاقتصادية مع روسيا مستفيدة من حاجة الأخيرة لها بسبب العقوبات الغربية.
- في الجانب الآخر؛ تطورت العلاقات الروسية الأذرية منذ انتصار باكو في حرب 2020، وأصبحت أذربيجـان قناة تجارية مهمة لروسيا مع نمو ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، والذي يمتد من روسيا إلى الهند ويساهم في الالتفاف على العقوبات الغربية، وبعد أن كانت روسيا تدعو إلى تجميد الأوضاع في إقليم ناغورنو كاراباخ، دعمت علناً إصرار باكو على التزام سكان الإقليم بالقوانين الأذرية كجزء من أي تسوية نهائية.
- تظل أولوية روسيا هي الحفاظ على هيمنتها الإقليمية، والحد من نفوذ الأطراف المنافسة بما في ذلك تركيا والولايات المتحدة، وحتى إيران. ولا تزال روسيا أكبر مورد للأسلحة إلى أرمينيا وأذربيجـان، حيث قدمت روسيا 94% و60% من واردات الأسلحة إلى أرمينيا وأذربيجـان، على التوالي، في الفترة من 2011 إلى 2020. ومن المتوقع أن تدافع روسيا عن نفوذها في البلدين، وأن تسعى للتوازن في علاقاتها بين باكو وياريفان حتى لا تسمح بتسلل القوى الأخرى إلى مجال نفوذها الحيوي.
- لكنّ أوجه الضعف التي أظهرتها الحرب الأوكرانية تهدد بتقويض موقع موسكو المهيمن في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، خاصة مع تصاعد جهود الغرب لعزل موسكو، ونشاط قوى أخرى منافسة أهمها الصين وتركيا والولايات المتحدة.وبينما نجحت تركيا في تطوير شراكة استراتيجية مع أذربيجـان، فإن أرمينيا ودول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى تسعى بصورة متزايدة للاستفادة من الفرص الاقتصادية والأمنية التي يوفرها التنافس الدولي والإقليمي.
- يعزز هذا الانتصار العسكري موقع أذربيجـان وتركيا إزاء إنشاء طريق يعبر منطقة سيونيك جنوب أرمينيا، وتشغيل ممرزنغزور، وهو طريق يمر عبر جنوب أرمينيا ويبلغ طوله 40 كم ويربط بين أذربيجـان وإقليم ناخيتشيفان التابع لها والمنفصل جغرافيّاً عن باقي أذربيجـان. ويمنح ممر زنغزور لأذربيجـان وتركيا طريقاً مباشراً للتجارة يربط بين آسيا الوسطى وأوروبا دون المرور بإيران، ويحد من النفوذ الذي تتمتع به طهران على باكو بشأن وصول الأخيرة إلى إقليم ناختشيفان.
- سبق أن قدرنا بأن التنافس الجيوسياسي بين تركيا وإيران سيكون أكثر وضوحا في المرحلة المقبلة، وتعزز التطورات في أذربيجـان هذا التقدير؛ حيث يتمتع الأتراك الآن بنفوذ على الجناح الشمالي لإيران، وهو أمر لم يتمكن حتى العثمانيون من تحقيقه على الإمبراطورية الفارسية.
- وبينما شعر الإيرانيون بالارتياح سابقا لسيطرة أرمينيا على ناغورنو كاراباخ والعديد من المناطق على طول الحدود مع إيران، فإن استعادة أذربيجـان سيطرتها على المنطقة يضع طهران في مواجه أكثر مع أذربيجـان المتحالفة مع إسرائيل، والتي تتمتع بعمق استراتيجي عرقي في شمال إيران، حيث ينتمي حوالي ربع الإيرانيين إلى العرق الأذري ويسكنون محافظتي أذربيجـان الغربية والشرقية على طول الحدود الشمالية.